الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (نسخة منقحة)
الثَّامِنَ عَشَرَ: تَوْحِيدُ الْمَحْبُوبِ بِخَالِصِ الْإِرَادَةِ وَصِدْقِ الطَّلَبِ.التَّاسِعَ عَشَرَ: سُقُوطُ كُلِّ مَحَبَّةٍ مِنَ الْقَلْبِ إِلَّا مَحَبَّةَ الْحَبِيبِ. وَهُوَ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ. وَمُرَادُهُ: تَوْحِيدُ الْمَحْبُوبِ بِالْمَحَبَّةِ.الْعِشْرُونَ: غَضُّ طَرَفِ الْقَلْبِ عَمَّا سِوَى الْمَحْبُوبِ غَيْرَةً. وَعَنِ الْمَحْبُوبِ هَيْبَةً. وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى تَبْيِينٍ.أَمَّا الْأَوَّلُ: فَظَاهَرٌ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَإِنَّ غَضَّ طَرَفِ الْقَلْبِ عَنِ الْمَحْبُوبِ- مَعَ كَمَالِ مَحَبَّتِهِ- كَالْمُسْتَحِيلِ. وَلَكِنْ عِنْدَ اسْتِيلَاءِ الْهَيْبَةِ يَقَعُ مِثْلُ هَذَا. وَذَلِكَ مِنْ عَلَامَاتِ الْمَحَبَّةِ الْمُقَارِنَةِ لِلْهَيْبَةِ وَالتَّعْظِيمِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا تَفْسِيرُ قَوْلِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ أَيْ يُعْمِي عَمَّا سِوَاهُ غَيْرَةً، وَعَنْهُ هَيْبَةً.وَلَيْسَ هَذَا مُرَادَ الْحَدِيثِ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ: أَنَّ حُبَّكَ لِلشَّيْءِ يُعْمِي وَيُصِمُّ عَنْ تَأَمُّلِ قَبَائِحِهِ وَمُسَاوِيهِ. فَلَا تَرَاهَا وَلَا تَسْمَعُهَا، وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ: ذِكْرَ الْمَحَبَّةِ الْمَطْلُوبَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالرَّبِّ. وَلَا يُقَالُ فِي حُبِّ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: حُبُّكَ الشَّيْءَ. وَلَا يُوصَفُ صَاحِبُهَا بِالْعَمَى وَالصَّمَّ.وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ الْمَرْتَبَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ. فَإِنَّ الْمُحِبَّ قَدْ يَعْمَى وَيَصِمُّ عَنْهُ بِالْهَيْبَةِ وَالْإِجْلَالِ، وَلَكِنْ لَا تُوصَفُ مَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ. وَلَيْسَ أَهْلُهَا مِنْ أَهْلِ الْعَمَى وَالصَّمَمِ. بَلْ هُمْ أَهْلُ الْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَمَنْ سِوَاهُمْ هُمُ الْبُكْمُ الْعُمْيُ الصُّمُّ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ.الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: مَيْلُكَ لِلشَّيْءِ بِكُلِّيَّتِكَ. ثُمَّ إِيثَارُكَ لَهُ عَلَى نَفْسِكَ وَرُوحِكَ وَمَالِكَ. ثُمَّ مُوَافَقَتُكَ لَهُ سِرًّا وَجَهْرًا. ثُمَّ عِلْمُكَ بِتَقْصِيرِكَ فِي حُبِّهِ.قَالَ الْجُنَيْدُ: سَمِعْتُ الْحَارِثَ الْمُحَاسَبِيَّ يَقُولُ ذَلِكَ.الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: الْمَحَبَّةُ نَارٌ فِي الْقَلْبِ، تُحْرِقُ مَا سِوَى مُرَادِ الْمَحْبُوبِ.وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَقُولُ: لُمْتُ بَعْضَ الْإِبَاحِيَّةِ، فَقَالَ لِي ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ: وَالْكَوْنُ كُلُّهُ مُرَادُهُ، فَأَيَّ شَيْءٍ أَبْغَضَ مِنْهُ؟قَالَ الشَّيْخُ: فَقُلْتُ لَهُ: إِذَا كَانَ الْمَحْبُوبُ قَدْ أَبْغَضَ أَفْعَالًا وَأَقْوَالًا وَأَقْوَامًا وَعَادَاهُمْ فَطَرَدَهُمْ وَلَعَنَهُمْ فَأَحْبَبْتَهُمْ: تَكُونُ مُوَالِيًا لِلْمَحْبُوبِ أَوْ مُعَادِيًا لَهُ؟ قَالَ: فَكَأَنَّمَا أُلْقِمَ حَجَرًا. وَافْتُضِحَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ. وَكَانَ مُقَدَّمًا فِيهِمْ مُشَارًا إِلَيْهِ.وَهَذَا الْحَدُّ صَحِيحٌ: وَقَائِلُهُ إِنَّمَا أَرَادَ: أَنَّهَا تُحْرِقُ مِنَ الْقَلْبِ مَا سِوَى مُرَادِ الْمَحْبُوبِ الدِّينِيِّ الْأَمْرِيِّ، الَّذِي يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، لَا الْمُرَادَ الَّذِي قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ. لَكِنْ لِقِلَّةِ حَظِّ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعِلْمِ: وَقَعُوا فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ مِنَ الْإِبَاحَةِ وَالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ.الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: الْمَحَبَّةُ بَذْلُ الْمَجْهُودِ، وَتَرْكُ الِاعْتِرَاضِ عَلَى الْمَحْبُوبِ. وَهَذَا أَيْضًا مِنْ حُقُوقِهَا وَثَمَرَاتِهَا. وَمُوجِبَاتِهَا.الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: سُكْرٌ لَا يَصْحُو صَاحِبُهُ إِلَّا بِمُشَاهَدَةِ مَحْبُوبِهِ. ثُمَّ السُّكْرُ الَّذِي يَحْصُلُ عِنْدَ الْمُشَاهَدَةِ لَا يُوصَفُ، وَأَنْشَدَ: وَيَنْبَغِي صَوْنُ الْمَحَبَّةِ وَالْحَبِيبِ عَنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، الَّتِي غَايَةُ صَاحِبِهَا: أَنْ يُعْذَرَ بِصِدْقِهِ وَغَلَبَةِ الْوَارِدِ عَلَيْهِ، وَقَهْرِهِ لَهُ. فَمَحَبَّةُ اللَّهِ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ تُضْرَبَ لَهَا هَذِهِ الْأَمْثَالُ، وَتُجْعَلَ عُرْضَةً لِلْأَفْوَاهِ الْمُتَلَوِّثَةِ، وَالْأَلْفَاظِ الْمُبْتَدَعَةِ، وَلَكِنَّ الصَّادِقَ فِي خِفَارَةِ صِدْقِهِ.الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: أَنْ لَا يُؤَثِّرَ عَلَى الْمَحْبُوبِ غَيْرُهُ، وَأَنْ لَا يَتَوَلَّى أُمُورَكَ غَيْرُهُ.السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: الدُّخُولُ تَحْتَ رِقِّ الْمَحْبُوبِ وَعُبُودِيَّتِهِ، وَالْحُرِّيَّةُ مِنِ اسْتِرْقَاقِ مَا سِوَاهُ.السَّابِعَ وَالْعِشْرُونَ: الْمَحَبَّةُ سَفَرُ الْقَلْبِ فِي طَلَبِ الْمَحْبُوبِ، وَلَهَجُ اللِّسَانِ بِذِكْرِهِ عَلَى الدَّوَامِ.قُلْتُ: أَمَّا سَفَرُ الْقَلْبِ فِي طَلَبِ الْمَحْبُوبِ: فَهُوَ الشَّوْقُ إِلَى لِقَائِهِ، وَأَمَّا لَهَجُ اللِّسَانِ بِذِكْرِهِ: فَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَكْثَرَ مَنْ ذِكْرِهِ.الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ الْمَحَبَّةَ هِيَ مَا لَا يَنْقُصُ بِالْجَفَاءِ. وَلَا تَزِيدُ بِالْبِرِّ. وَهُوَ لِيَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ، بَلِ الْإِرَادَةُ وَالطَّلَبُ وَالشَّوْقُ إِلَى الْمَحْبُوبِ لِذَاتِهِ، فَلَا يُنْقِصُ ذَلِكَ جَفَاؤُهُ. وَلَا يَزِيدُهُ بِرُّهُ.وَفِي ذَلِكَ مَا فِيهِ. فَإِنَّ الْمَحَبَّةَ الذَّاتِيَّةَ تَزِيدُ بِالْبِرِّ. وَلَا تُنْقِصُهَا زِيَادَتُهَا بِالْبِرِّ. وَلَيْسَ ذَلِكَ بِعِلَّةٍ، وَلَكِنَّ مُرَادَ يَحْيَى: أَنَّ الْقَلْبَ قَدِ امْتَلَأَ بِالْمَحَبَّةِ الذَّاتِيَّةِ. فَإِذَا جَاءَ الْبِرُّ مِنْ مَحْبُوبِهِ. لَمْ يَجِدْ فِي الْقَلْبِ مَكَانًا خَالِيًا مِنْ حُبِّهِ يَشْغَلُهُ مَحَبَّةُ الْبِرِّ. بَلْ تِلْكَ الْمَحَبَّةُ قَدِ اسْتَحَقَّتْ عَلَيْهِ بِالذَّاتِ بِلَا سَبَبٍ. وَمَعَ هَذَا فَلَا يُزِيلُ الْوَهْمَ. فَإِنَّ الْمَحَبَّةَ لَا نِهَايَةَ لَهَا. وَكُلَّمَا قَوِيَتِ الْمَعْرِفَةُ وَالْبِرُّ قَوِيَتِ الْمَحَبَّةُ. وَلَا نِهَايَةَ لِجَمَالِ الْمَحْبُوبِ وَلَا بِرِّهِ. فَلَا نِهَايَةَ لِمَحَبَّتِهِ، بَلْ لَوِ اجْتَمَعَتْ مَحَبَّةُ الْخَلْقِ كُلِّهُمْ وَكَانَتْ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: كَانَ ذَلِكَ دُونَ مَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ. وَلِهَذَا لَا تُسَمَّى مَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ عِشْقًا- كَمَا سَيَأْتِي- لِأَنَّهُ إِفْرَاطُ الْمَحَبَّةِ، وَالْعَبْدُ لَا يَصِلُ فِي مَحَبَّةِ اللَّهِ إِلَى حَدِّ الْإِفْرَاطِ، أَلْبَتَّةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: الْمَحَبَّةُ أَنْ يَكُونَ كُلُّكَ بِالْمَحْبُوبِ مَشْغُولًا، وَذَلِكَ لَهُ مَبْذُولًا.الثَّلَاثُونَ: وَهُوَ مِنْ أَجْمَعِ مَا قِيلَ فِي الْمَحَبَّةِ فِيهَا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْكَتَّانِيُّ: جَرَتْ مَسْأَلَةٌ فِي الْمَحَبَّةِ بِمَكَّةَ- أَعَزَّهَا اللَّهُ تَعَالَى- أَيَّامَ الْمَوْسِمِ، فَتَكَلَّمَ الشُّيُوخُ فِيهَا. وَكَانَ الْجُنَيْدُ أَصْغَرَهُمْ سِنًّا. فَقَالُوا: هَاتِ مَا عِنْدَكَ يَا عِرَاقِيُّ. فَأَطْرَقَ رَأْسَهُ، وَدَمِعَتْ عَيْنَاهُ. ثُمَّ قَالَ: عَبْدٌ ذَاهِبٌ عَنْ نَفْسِهِ، مُتَّصِلٌ بِذِكْرِ رَبِّهِ، قَائِمٌ بِأَدَاءِ حُقُوقِهِ، نَاظِرٌ إِلَيْهِ بِقَلْبِهِ، أَحْرَقَتْ قَلْبَهُ أَنْوَارُ هَيْبَتِهِ. وَصَفَا شُرْبُهُ مِنْ كَأْسِ وُدِّهِ. وَانْكَشَفَ لَهُ الْجَبَّارُ مِنْ أَسْتَارِ غَيْبِهِ. فَإِنْ تَكَلَّمَ فَبِاللَّهِ. وَإِنْ نَطَقَ فَعَنِ اللَّهِ. وَإِنْ تَحَرَّكَ فَبِأَمْرِ اللَّهِ. وَإِنْ سَكَنَ فَمَعَ اللَّهِ. فَهُوَ بِاللَّهِ وَلِلَّهِ وَمَعَ اللَّهِ.فَبَكَى الشُّيُوخُ وَقَالُوا: مَا عَلَى هَذَا مَزِيدٌ. جَزَاكَ اللَّهُ يَا تَاجَ الْعَارِفِينَ.
وَقَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}- إِلَى قوله: {مَحْذُورًا} فَذِكْرُ الْمَقَامَاتِ الثَّلَاثِ: الْحُبُّ. وَهُوَ ابْتِغَاءُ الْقُرْبِ إِلَيْهِ، وَالتَّوَسُّلُ إِلَيْهِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. وَالرَّجَاءُ وَالْخَوْفُ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ابْتِغَاءَ الْوَسِيلَةِ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى رَجَاءِ الرَّحْمَةِ وَخَوْفِ الْعَذَابِ.وَمِنَ الْمَعْلُومِ قَطْعًا: أَنَّكَ لَا تَتَنَافَسُ إِلَّا فِي قُرْبِ مَنْ تُحِبُّ قُرْبَهُ، وَحُبُّ قُرْبِهِ تَبَعٌ لِمَحَبَّةِ ذَاتِهِ. بَلْ مَحَبَّةُ ذَاتِهِ أَوْجَبَتْ مَحَبَّةَ الْقُرْبِ مِنْهُ. وَعِنْدَ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعَطِّلَةِ ضُرِبَتْ قُلُوبُهُمْ بِالْقَسْوَةِ: مَا مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ شَيْءٌ. فَإِنَّهُ عِنْدَهُمْ لَا تَقْرَبُ ذَاتُهُ مِنْ شَيْءٍ، وَلَا يَقْرَبُ مِنْ ذَاتِهِ شَيْءٌ، وَلَا يُحِبُّ لِذَاتِهِ. وَلَا يُحَبُّ.فَأَنْكَرُوا حَيَاةَ الْقُلُوبِ، وَنَعِيمَ الْأَرْوَاحِ، وَبَهْجَةَ النُّفُوسِ، وَقُرَّةَ الْعُيُونِ، وَأَعْلَى نَعِيمِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَلِذَلِكَ ضُرِبَتْ قُلُوبُهُمْ بِالْقَسْوَةِ، وَضُرِبَتْ دُونَهُمْ وَدُونَ اللَّهِ حُجُبٌ عَلَى مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ. فَلَا يَعْرِفُونَهُ وَلَا يُحِبُّونَهُ. وَلَا يَذْكُرُونَهُ إِلَّا عِنْدَ تَعْطِيلِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ فَذِكْرُهُمْ أَعْظَمُ آثَامِهِمْ وَأَوْزَارِهِمْ.بَلْ يُعَاقِبُونَ مَنْ يَذْكُرُهُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ. وَيَرْمُونَهُمْ بِالْأَدْوَاءِ الَّتِي هُمْ أَحَقُّ بِهَا وَأَهْلُهَا، وَحَسْبُ ذِي الْبَصِيرَةِ وَحَيَاةِ الْقَلْبِ: مَا يَرَى عَلَى كَلَامِهِمْ مِنَ الْقَسْوَةِ وَالْمَقْتِ، وَالتَّنْفِيرِ عَنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَعْرِفَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} وقال أَحْبَابُهُ وَأَوْلِيَاؤُهُ: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا}.وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} فَجَعَلَ غَايَةَ أَعْمَالِ الْأَبْرَارِ وَالْمُقَرَّبِينَ وَالْمُحِبِّينَ: إِرَادَةَ وَجْهِهِ.وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} فَجَعَلَ إِرَادَتَهُ غَيْرَ إِرَادَةِ الْآخِرَةِ.وَهَذِهِ الْإِرَادَةُ لِوَجْهِهِ مُوجِبَةٌ لِلَذَّةِ النَّظَرِ إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا فِي مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ وَصَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو: اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ: أَحْيِنِي إِذَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي. وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ. وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا. وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى. وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ. وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ. وَأَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَبَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ. وَأَسْأَلُكَ الشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ. اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ. وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ.فَقَدِ اشْتَمَلَ هَذَا الْحَدِيثُ الشَّرِيفُ عَلَى ثُبُوتِ لَذَّةِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ، وَعَلَى ثُبُوتِ الشَّوْقِ إِلَى لِقَائِهِ. وَعِنْدَ الْجَهْمِيَّةِ لَا وَجْهَ لَهُ سُبْحَانَهُ، وَلَا يُنْظَرُ إِلَيْهِ، فَضْلًا أَنْ يَحْصُلَ بِهِ لَذَّةٌ. كَمَا سَمِعَ بَعْضُهُمْ دَاعِيًا يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ فَقَالَ: وَيْحَكَ! هَبْ أَنَّ لَهُ وَجْهًا، أَفَتَلْتَذُّ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ؟وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ثَلَاثٌ مِنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا. وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ. وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ- بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ- كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ.وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ. وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ. وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ. فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا. وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ.وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ دَعَا جِبْرِيلَ، فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا، فَأَحِبَّهُ. فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ. ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ، فَيَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ. فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ. ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ. وَذَكَرَ فِي الْبُغْضِ عَكْسَ ذَلِكَ.وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي حَدِيثِ أَمِيرِ السَّرِيَّةِ الَّذِي كَانَ يَقْرَأُ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} لِأَصْحَابِهِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ، وَقَالَ: لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ. فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ.وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ كَانَ مِنْ دُعَاءِ دَاوُدَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَالْعَمَلَ الَّذِي يُبَلِّغُنِي حُبَّكَ. اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي وَأَهْلِي. وَمِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ.وَفِيهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخَطْمِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يَنْفَعُنِي حُبُّهُ عِنْدَكَ. اللَّهُمَّ مَا رَزَقْتَنِي مِمَّا أُحِبُّ، فَاجْعَلْهُ قُوَّةً لِي فِيمَا تُحِبُّ، وَمَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا فِيمَا تُحِبُّ.وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ مَمْلُوءَانِ بِذِكْرِ مَنْ يُحِبُّهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ. وَذِكْرِ مَا يُحِبُّهُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}، {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}.وَقَوْلِهِ فِي ضِدِّ ذَلِكَ {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}، {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}، {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا}.وَكَمْ فِي السُّنَّةِ أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ كَذَا وَكَذَا، وَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ كَذَا وَكَذَا كَقَوْلِهِ: «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ: الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا، ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» وَ«أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. ثُمَّ حَجٌّ مَبْرُورٌ» وَ«أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى اللَّهِ: مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ» وَقَوْلِهِ «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ».وَأَضْعَافُ أَضْعَافِ ذَلِكَ. وَفَرَحُهُ الْعَظِيمُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ فَرَحٍ يَعْلَمُهُ الْعِبَادُ. وَهُوَ مِنْ مَحَبَّتِهِ لِلتَّوْبَةِ وَلِلتَّائِبِ.فَلَوْ بَطَلَتْ مَسْأَلَةُ الْمَحَبَّةِ لَبَطَلَتْ جَمِيعُ مَقَامَاتِ الْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ. وَلَتَعَطَّلَتْ مَنَازِلُ السَّيْرِ إِلَى اللَّهِ.فَإِنَّهَا رُوحُ كُلِّ مَقَامٍ وَمَنْزِلَةٍ وَعَمَلٍ. فَإِذَا خَلَا مِنْهَا فَهُوَ مَيِّتٌ لَا رُوحَ فِيهِ. وَنِسْبَتُهَا إِلَى الْأَعْمَالِ كَنِسْبَةِ الْإِخْلَاصِ إِلَيْهَا. بَلْ هِيَ حَقِيقَةُ الْإِخْلَاصِ، بَلْ هِيَ نَفْسُ الْإِسْلَامِ. فَإِنَّهُ الِاسْتِسْلَامُ بِالذُّلِّ وَالْحُبِّ وَالطَّاعَةِ لِلَّهِ. فَمَنْ لَا مَحَبَّةَ لَهُ لَا إِسْلَامَ لَهُ أَلْبَتَّةَ. بَلْ هِيَ حَقِيقَةُ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَإِنَّ الْإِلَهَ هُوَ الَّذِي يَأْلَهُهُ الْعِبَادُ ذُلًّا، وَخَوْفًا وَرَجَاءً، وَتَعْظِيمًا وَطَاعَةً لَهُ. بِمَعْنَى مَأْلُوهٍ. وَهُوَ الَّذِي تَأْلَهُهُ الْقُلُوبُ. أَيْ تُحِبُّهُ وَتَذِلُّ لَهُ.وَأَصْلُ التَّأَلُّهِ التَّعَبُّدُ. وَالتَّعَبُّدُ آخِرُ مَرَاتِبِ الْحُبِّ. يُقَالُ: عَبَّدَهُ الْحُبُّ وَتَيَّمَهُ: إِذَا مَلَكَهُ وَذَلَّلَهُ لِمَحْبُوبِهِ.فَـ الْمَحَبَّةُ حَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ. وَهَلْ تُمْكِنُ الْإِنَابَةُ بِدُونِ الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا، وَالْحَمْدِ وَالشُّكْرِ، وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ!! وَهَلِ الصَّبْرُ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا صَبْرَ الْمُحِبِّينَ!! فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُتَوَكَّلُ عَلَى الْمَحْبُوبِ فِي حُصُولِ مَحَابِّهِ وَمَرَاضِيهِ.وَكَذَلِكَ الزُّهْدُ فِي الْحَقِيقَةِ: هُوَ زُهْدُ الْمُحِبِّينَ. فَإِنَّهُمْ يَزْهَدُونَ فِي مَحَبَّةِ مَا سِوَى مَحْبُوبِهِمْ لِمَحَبَّتِهِ.وَكَذَلِكَ الْحَيَاءُ فِي الْحَقِيقَةِ: إِنَّمَا هُوَ حَيَاءُ الْمُحِبِّينَ. فَإِنَّهُ يَتَوَلَّدُ مِنْ بَيْنِ الْحُبِّ وَالتَّعْظِيمِ. وَأَمَّا مَا لَا يَكُونُ عَنْ مَحَبَّةٍ: فَذَلِكَ خَوْفٌ مَحْضٌ.وَكَذَلِكَ مَقَامُ الْفَقْرِ فَإِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ فَقْرُ الْأَرْوَاحِ إِلَى مَحْبُوبِهَا. وَهُوَ أَعْلَى أَنْوَاعِ الْفَقْرِ. فَإِنَّهُ لَا فَقْرَ أَتَمُّ مِنْ فَقْرِ الْقَلْبِ إِلَى مَنْ يُحِبُّهُ. لَا سِيَّمَا إِذَا وَحَّدَهُ فِي الْحُبِّ، وَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ عِوَضًا سِوَاهُ. هَذَا حَقِيقَةُ الْفَقْرِ عِنْدَ الْعَارِفِينَ.وَكَذَلِكَ الْغِنَى هُوَ غِنَى الْقَلْبِ بِحُصُولِ مَحْبُوبِهِ. وَكَذَلِكَ الشَّوْقُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلِقَائِهِ. فَإِنَّهُ لُبُّ الْمَحَبَّةِ وَسِرُّهَا. كَمَا سَيَأْتِي.فَمُنْكِرُ الْمَحَبَّةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمُعَطِّلُهَا مِنَ الْقُلُوبِ: مُعَطِّلٌ لِذَلِكَ كُلِّهِ. وَحِجَابُهُ أَكْثَفُ الْحُجُبِ. وَقَلْبُهُ أَقْسَى الْقُلُوبِ، وَأَبْعَدُهَا عَنِ اللَّهِ. وَهُوَ مُنْكِرٌ لِخُلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَإِنَّ الْخُلَّةَ كَمَالُ الْمَحَبَّةِ. وَهُوَ يَتَأَوَّلُ الْخَلِيلَ بِالْمُحْتَاجِ. فَخَلِيلُ اللَّهِ عِنْدَهُ: هُوَ الْمُحْتَاجُ. فَكَمْ- عَلَى قَوْلِهِ- لِلَّهِ مِنْ خَلِيلٍ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ، بَلْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ. إِذْ كَثِيرٌ مِنَ الْفُجَّارِ وَالْكُفَّارِ مَنْ يُنْزِلُ حَوَائِجَهُ كُلَّهَا بِاللَّهِ صَغِيرَهَا وَكَبِيرَهَا. وَيَرَى نَفْسَهُ أَحْوَجَ شَيْءٍ إِلَى رَبِّهِ فِي كُلِّ حَالَةٍ.فَلَا بِالْخُلَّةِ أَقَرَّ الْمُنْكِرُونَ، وَلَا بِالْعُبُودِيَّةِ، وَلَا بِتَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلَا بِحَقَائِقِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ. وَلِهَذَا ضَحَّى خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ بِمُقَدَّمِ هَؤُلَاءِ وَشَيْخِهِمْ جَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ، وَقَالَ فِي يَوْمِ عِيدِ اللَّهِ الْأَكْبَرِ، عَقِيبَ خُطْبَتِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ، ضَحُّوا. تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ. فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ. فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا. تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا. ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ، فَشَكَرَ الْمُسْلِمُونَ سَعْيَهُ. وَرَحِمَهُ اللَّهُ وَتَقَبَّلَ مِنْهُ.
|